من تراث الكاتب الأديب د. جابر قميحة*

بمؤامرة خسيسة تضافرت أيدي الحكومة المصرية العميلة والاستعمار الإنجليزي, والملك الدكتاتور, وأعداء الإسلام, واغتالوا إمام هذه الأمة حسن البنا في 12 من فبراير 1949م.

لقد عاش مجاهدًا.. مربيًا.. وعلى يديه تخرج جيل من الأبرار الأطهار, وامتدت ثماره إلى كل أنحاء العالم، وفي حياته.. بل بعد استشهاده اتهمه عُمْيُ الضمائر والبصائر بالعِمالة والإرهاب, والدكتاتورية في قيادة الجماعة, والجمود والضبابية الفكرية, ولكنَّ أخطرَ هذه الافتراءات اتهامه بالتعصب الديني والعمل على زرع الفتن الطائفية والدينية بين المسلمين والأقباط.

وفي السطور التالية نلقي نظرةً موضوعيةً على هذا الافتراء الأخير:

لقد كان حسن البنا- رحمه الله- والإخوان المسلمون منذ البداية مثالاً حيًّا للتسامح الديني, والبُعد عن التعصب الأعمى, وكانوا ينظرون إلى الأقباط- بصفة خاصة- على أنهم إخوة في الوطن، وأنهم أصحاب كتاب منزَّل من عند الله, والمسلم مطالب- حتى يكون مسلمًا حقًّا- أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقد دأب الإمام الشهيد على غرس هذه المعاني والقيم في نفوس الإخوان، وذلك في رسائله, وخطبه, ومحاضراته.

من كلماته

وهو في عرض هذه القيم الإنسانية العُليا يسترفد ويستقي المنابع النقية الأصيلة الصافية، بعيدًا عن المماحكات والخلافات الجدلية العقيمة، وما أكثر ما قدمه من نصوص وشواهد، نكتفي منها ببعض كلماته في رسالته (نحو النور)، وهي رسالة طويلة سلمها مندبون من الإخوان إلى الملك فاروق ورئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا, وملوك العرب وحكامهم والكبار وذوي الحيثية:

"إن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها.. لم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات, وهل يريد الناس أصرح من هذا النص ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

وإن الإسلام الذي قدَّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، ثم قدَّس الوحدة الدينية العامة كذلك, فقضى على التعصب, وفرض علي أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعًا في قوله تعالي: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136)، ثم بعد ذلك قدَّس الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان, فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ﴾ (الحجرات: 10).. هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعُه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس، إنه أكسبَ هذه الوحدةَ صفةَ القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتَها من نصٍّ مدني فقط".

والواقع خير شاهد

كان هذا هو التوجيه الإسلامي في التعامل مع ذوي الأديان الأخرى, وكان الإمام البنا- رحمه الله- يعرض هذا التوجيه ويلحُّ عليه كثيرًا, ويواجه به كل من يتهم الإسلام بالتعصب.. قد يقول بعضهم: ما أكثر الكلمات والمبادئ, وما أقل العمل والتطبيق!! ولكن الواقع التاريخي يورد من المواقف والأحداث والوقائع ما يقطع بأن الإمام حسن البنا والإخوان المسلمين عاشوا على المودة والتسامح وحسن المعاملة مع المواطنين الأقباط، الذين عاشوا يبادلون المرشد والإخوان نفس الشعور, على الرغم من محاولة المغرضين والنوايا السيئة تعكير الصفو, وإفساد هذه العلائق الطيبة.

ونورد في السطور الآتية بعض الوقائع شاهدًا على صدق هذا الحكم:

في الإسماعيلية

أراد بعضهم أن يُحدث فتنةً بين الإخوان والمسيحيين في مطلع الدعوة- والإمام البنا مدرس في الإسماعيلية- فكتب عريضةً بتوقيع "مسيحي", ذكر فيها أن "المدرس المسلم المتعصِّب" حسن البنا يرأس جماعةً متعصبةً اسمها (الإخوان المسلمون)، وأنه يهين ويضطهد التلاميذ المسيحيين, ويفضل التلاميذ المسلمين عليهم، وطالب كاتب العريضة المسئولين بنقل هذا المدرس المتعصب بعيدًا عن الإسماعيلية حتى لا تكون فتنة.

وحُوِّلت هذه العريضة على ناظر المدرسة, فاستاء المسيحيون منها جدًا, وجاء وفد منهم إلى المدرسة معلنًا استنكاره, على رأس هذا الوفد راعي الكنيسة الأرثوذكسية، وكتب كثيرٌ من أعيان الأقباط- وكذلك الكنيسة "بختمها" وتوقيع راعيها- عرائضَ وخطابات استنكار، وأرفقها الناظر بتقريره الذي ختمه بقوله: أرجو وزارة المعارف ألا ترهقنا بمثل هذه المجهولات, وأن تحقق فيها بمعرفتها, بعد أن ثبت أنها جميعًا أمورٌ كيديةٌ لا يُراد من ورائها خير.

في قنا بالصعيد

وحينما نُقل حسن البنا سنة 1941م إلى "قنا" بصعيد مصر؛ نتيجة ضغط الإنجليز على حسين سري باشا- رئيس الوزراء- تسابَق كثير من المنافقين ودعاة الفتنة إلى نشر إشاعة بين الأقباط في قنا، تصور حسن البنا والإخوان المسلمين مبغضين للأقباط.. عاملين على الإضرار بهم.. فكيف قضى الإمام البنا على هذه الفرية?!

إن الجواب نجده في السطور الآتية من رسالة بعث بها حسن البنا من قنا إلى والده- رحمه الله- بالقاهرة: ".. جمعية الإخوان بقنا تسير بخطًى موفقةٍ, وكانت عندنا بالأمس حفلةٌ كبيرةٌ دعونا إليها كل الطائفة القبطية وعلى رأسها المطران, وأقبلوا جميعًا لم يتخلف منهم أحد, وكانت صفعةً قويةً لمنافقي المسلمين الذين يتزلفون إلى هؤلاء بالفتنة، ولقد كنت صريحًا جدًا- في لباقة- وأنا أبسط فكرة الإخوان بصورة حازت إعجاب الجميع, والحمد لله, وكل شيء على ما يرام".

"خريستو".. وكيل حسن البنا

وحينما رشَّح نفسه في الانتخابات النيابية سنة 1944م في عهد وزارة أحمد ماهر باشا عن دائرة الإسماعيلية كان وكيله في لجنة "الطور"- التابعة لدائرة الإسماعيلية- يوناني مسيحي متمصِّر يُدعى "الخواجة باولو خريستو" وكانت هذه اللفتة مثارَ سخريةِ قادة الحزب السعدي الحاكم، وخصوصًا أحمد ماهر باشا, ومحمود فهمي النقراشي باشا.

زيارات حب موسمية
 
وكان المسيحيون- على مستوى مصر كلها- يَشعرون بروح الودِّ والسماحة المتبادلة بينهم وبين الإخوان، وخصوصًا في المناسبات الدينية، وحرص الإخوان على أن ينشروا في صحفهم أخبار هذه الزيارات، ومثال ذلك الخبر التالي المنشور في صحيفة (الإخوان) بتاريخ 10/11/1946م.

"زار نيافة مطران الشرقية والمحافظات دار الإخوان المسلمين بالزقازيق يوم عيد الأضحى (سنة 1365هـ) للتهنئة بالعيد, وأذاع نيافته نشرةً مطولةً بعنوان (هدية العيد) تدور حول معنى (الاتحاد رمز الانتصار), وقال في آخرها: أشكر جمعية الإخوان؛ لأنهم إخوان في الشعور.. إخوان في التضامن.. إخوان في العمل".

البنا في مجمع الأديان

وأطرف هذه الوقائع كلها, وكانت أواخر سنة 1927م ننقلها بالنص من مذكراته ".. بعد أربعين يومًا من نزولنا إلى الإسماعيلية, لم نسترِحْ للإقامة في البنسيونات, فعوَّلنا على استئجار منزل خاص, فكانت المصادفة أن نجد دورًا أعلى في منزل استؤجر دوره الأوسط لمجموعة من المواطنين المسيحيين اتخذوا منه ناديًا وكنيسةً ودوره الأسفل (الأرضي) لمجموعة من اليهود اتخذوه ناديًا وكنيسةً، وكنا نحن بالدور الأعلى نقيم الصلاة, ونتخذ من هذا المسكن مصلًّى.. فكأنما كان هذا المنزل يمثل الأديان الثلاثة، ولست أنسى "أم شالوم" سادنة الكنيسة, وهي تدعونا كل ليلة سبت لنضيء لها النور, ونساعدها في "توليع وابور الجاز"، وكنا نداعبها بقولنا: إلى متى تستخدمون هذه الحِيَل التي لا تنطلي على الله?! وإن كان الله قد حرم عليكم النور والنار يوم السبت- كما تدَّعون- فهل حرَّم عليكم الانتفاع أو الرؤية?‍ فتعتذر وتنتهي المناقشة بسلام".

ولكن لا تهاون ولا تفريط

نعم.. إنه تسامح حقيقي, ومودة صادقة.. ولكن بلا هوان, ولا تهاون, ولا تفريط في قيمة من القيم الدينية أو الوطنية.. فحينما رأى الإخوان أحد كبار رجال الدين المسيحي وهو القمص "سرجيوس" يتصرف بما يسيء إلى الدين والوطنية هاجموه بشدة في صحيفة (الإخوان), ومما جاء فيها (13/5/1947م): ".. علمنا أن القمص سرجيوس يجتمع بمواطنينا الأقباط في "التل الكبير", وأن هذا الاجتماع يتم في كنيسة داخل أحد المعسكرات البريطانية.. فماذا وراء هذه الاجتماعات? وهل هناك تدبير مبيَّت للاعتداء على كنيسة أخرى مثل كنيسة الزقازيق? إن إصبع المستعمر في إثارة الفتنة باديةٌ وملموسةٌ, وإن كان للإنجليز أن يطبقوا سياستهم التي استعمروا بها العالم- وهي التفريق بين أبناء الوطن- فكيف يسمح رجل من رجال الدين لنفسه أن يكون مطيةً لأعداء الوطن والدين..؟".

ويظهر أن "سرجيوس"- بتصرفاته هذه وبمقالات نشرَها ينال فيها من المرشد العام ودعوة الإخوان- قد أساء إلى شعور عقلاء المسيحيين, فكتب أحدهم- واسمه "أمين برسوم"- موجِّهًا خطابه للإخوان ومرشدهم: ".. إخواني في الوطن: مما يأسف له جميع الأقباط ما اطَّلعنا عليه من مقالات "القمص سرجيوس" المُخزية التي لا يصحُّ أن تصدر عن رجال الدين الأطهار الذين هم فخرنا وهي تسيء إلى المرشد العام للإخوان المسلمين.. إننا نستنكر تلك المقالات؛ لأننا نشعر بالأخوَّة التي بيننا, وبين إخواننا المسلمين؛ لأن الوطن للجميع, والدين للدَّيَّان..".

إن الواقع الذي تعيشه مصر الآن وقد طلعت الفتنة برأسها الشيطاني لتنفث سمومها.. لَيَدفعنا إلى الترحم على الشهيد العظيم الذي عاش طيلة حياته مثالاً للتسامح والحب وبُعد النظر, واحترام كل ذي دين.. وعلى دربه يسير أبناؤه وتلاميذه.. يرحمه الله.
------------

* سبق نشره على (إخوان أون لاين) بتاريخ 13 فبراير 2005م