من تراث فضيلة المرشد العام الأستاذ الدكتور محمد بديع

 ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 120- 121).

العلاج يكون بتصحيح المفهوم والتصور وضبط النية؛ لأن السبب الرئيسي في القعور والكسل، أو الخوف والوجل من العمل الصالح، وما يترتب عليه من بعض المكروهات هو الخوف من الخسارة للمكسب الدنيوي، بينما المؤمن يعلم أن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات والفهم الخاطئ.

ثلاثة أعمدة رئيسة يدور حولها هذا الموضوع

العمود الأول:

أن المستفيد الأول من الطاعات هو أنت، والخاسر الأول من القعود عن الطاعات أو البخل بالنفقات من كل صور الإنفاق من الوقت والجهد والمال والعلم أيضًا هو أنت، وهنا إذا ترسخ في النفس هذا الدافع بمنطق المكسب والخسارة، وتغليب الحرص على ما ينفع على ما يضر، وما يبقى على ما يفنى كان هذا هو منتهى الذكاء والفطنة: "الكَيِّس مَن دَانَ نَفسَهُ، وعَمِلَ لِمَا بَعدَ المَوتِ"؛ بل بمنطق التجارة والربح والخسارة، فالأعمال الصالحة هي أعلى استثمارٍ فهمه "عثمان بن عفان"- رضي الله عنه- التاجر الغني الدارس جيدًا للسوق التجارية، فقد باع قافلة التجارة لله الذي يعطي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فأي بورصة دنيوية، وأي مشروع في الدنيا يحقق سبعمائة ضعف رأس المال، هكذا أقحم الصحابي الجليل جميع التجاريين الذين جاءوا يزايدون على القافلة بعد أن باع لله- عز وجل.

وهذا هو "صهيب بن سنان الرومي" الصحابي الجليل، ابن الروم، وسابق الروم كلهم إلى الإسلام، الذي حصل على ربحٍ شهد به النبي- صلى الله عليه وسلم- عندما مدح صنيعه بالهجرة من مكة لله تاركاً ماله ابتغاء مرضاة الله، فقال له الرسول الكريم "ربح البيع يا صهيب"، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الصف:10) ومقابلة الإفلاس والخسارة يضبط ميزانها التجاري رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول لصحابة- رضوان الله عليهم-: "المُفلِسُ مَن جَاء يَوم القِيامَةِ بِصَلاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ وَحَجِّ، ويأتِي وَقَد ضَرَبَ هَذَا وَشَتَمَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيَأخُذُ هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إذا فَنِيَت حَسَنَاتُه أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِهِم فَطُرِحَ عَلَى سَيِّئَاتِه، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

العمود الثاني:

﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 120) الكتابة بقلم القدر الذي جفَّ ورفع وطويت الصحف التي كتب فيها تعطي المؤمن عزة وقوة وطمأنينة إلى جنب الله ﴿قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 51)، والملاحظ لنا هنا ولهم هناك فكله لنا وليس علينا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات فتلتقي الأحداث كلها على أنها من رب العزة القوي القادر العليم اللطيف الخبير، فتطمئن إلى أن الخلق كلهم أدوات، وأنك تستر القدرة وتأخذ الأجرة.

ومن زاوية ثانية أنك لا تهرب من تكليف خشية أن يصيبك مكروه، فلو أن الله يعلم أن في هذا ضررك ما كلفك به وهو يحبك وأنت تحبه ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: من الآية 19)، واعلم أنه لا يغني حذر من قدر، بل إن الأصل في الحذر ليس القعود ولكن أخذ الحيطة قبل التنفيذ، والجد والعزم على المسارعة في الخير جمعت في كلمتين ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ (النساء: من الآية 71).

العمود الثالث:

﴿أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: من الآية 121) تأمل يا أخي هدانا الله وإياك هذه الجملة الموجزة.. ما دام الجزاء سيكون من الكريم على مستوى أحسن أعمالك ألا يدفع هذا المؤمن الفطن الكيس على أن يجيد ويتقن ولو في بعض المرات؛ لكي يحاسب على هذا المستوى الأعلى، وهذه الفئة والشريحة الحسابية كلما حققت مستوى أفضل وأداء أكمل من أي عمل صالح سجلت رقما قياسيًّا في أعمالك سيحاسبك الكريم يوم القيامة على كل أعمالك بمستوى هذه القمة التي بلغتها ولو مرة ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطففين: من الآية 26)، وصدق الرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي يدل أمته على الخير: "إذَا سَألتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الفِردَوسَ الأعلَى".