بقلم: جمال سيد أحمد

نعم والله هو المحبُّ المحبوب، لقد سماه وبحق الأستاذ عمر التلمساني الملهم الموهوب، وها آنذا أتناول هذ الجانب العظيم في شخصية حسن البنا؛ باعتباره أخصَّ ما يميِّز هذه الشخصية، وهو موضوع الحب في تكوين حسن البنا النفسي والعقدي والاجتماعي والتربوي والحركي.

 

لقد حقَّق حسن البنا نجاحاتٍ عظيمةً على المستوى الفردي والاجتماعي، فما سرُّ هذه النجاحات؟!

 

الجواب: إنه توفيق الله عز وجل، ومع أننا نسلِّم بصحة هذا الجواب إلا أنه يعطينا تفسيرًا دقيقًا؛ باعتبار أن هذا التفسير يتسم بالعمومية دون التفصيل والتحليل، مع إيماننا كذلك بأن توفيق الله- عز وجل- لا يُوزَّع بين خلقه خبطَ عشواء، كيف وهو سبحانه الحكيم العدل اللطيف الخبير: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: من الآية 124)؟!

 

إن سرَّ توفيق الله له أنه كان محبًّا لله.

لقد رباه منذ نعومة أظفاره على محبة الله.

أحبَّ اللهَ فأقبلَ على الله علَّه يحفظه ويرعاه.

 

لقد عرف الله فأحبَّه، وهذه نتيجة حتمية لمعرفة الله، فمن عرَف الله أحبَّ الله، فهو سبحانه أهلٌ لأن يُحَبَّ لذاته أولاً، ثم لما يغذونا به من نعم، والعبادة الحقَّة هي معرفة الله.

 

ففي معنى قول الله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)﴾ (الذاريات) قال ابن عباس: معناها إلا ليعرفون.

 

وآيات الله في القرآن مبثوثة، كلها تدل على الله، وتعرِّف بالله الأحد الخالق، وآياتُ الله في القرآن مُبيَّنةٌ، كلها تدل على الله، وتعرِّف بالله، وبآلائه وأسمائه وصفاته: "وفي كل شيء له آيةٌ  ***  تدل على أنه الواحدُ".

 

وحسن البنا تربَّى على ذكر الله والتفكر في آيات الله الكونية والقرآنية، وسنته في خلقه وآلائه ونعمه على عباده ورحمته بخلقه أجمعين، فأثمر فيه ذلك محبةً صادقةً وعظيمةً لله جل شأنه على طاعته بحبٍّ وإعظامٍ وإجلالٍ وإكبارٍ، وأقبل على دعوته محبًّا لها متمنيًا أن تنتشر وتنتصر به أو بغيره، فأفنَى ذاته في طاعة الله، وأجهد بدنَه في الدعوة إلى طاعته، وبالجملة كان لله بكليته فكان الله له.

 

وهو قانون الله في خلقه وسنته بين عباده: "ومن ذكر الله ذكره الله".
ومن توكل على الله كفاه الله ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: من الآية 3) ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾، (إبراهيم: من الآية 7) ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ (التغابن: من الآية 11).

 

لقد تعرَّض حسن البنا لهذا القانون لهذه السنن لهذه النفحات، فبارك الله في هذه الشخصية، بارك في عمره القصير وجهاده المتواصل في هذا الزمن القصير، فاستطاع في وقت مبكر أن يصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه، وأن يحوزَ من العِلم والمعارف في أصول الفقه والدعوة ومعرفة السنن والأخبار.

 

فقه حسن البنا عن الله- في كتابه- وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في سنته، سنن الله في الخلق، وسنن الله في الأمر: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 54) فقه من كتاب الله ومن سيرة رسول الله ومن دراسته للتاريخ والحاضر، كيف تُبنَى الأممُ والحضاراتُ، والأسباب والآفات التي تَعرِض لها فتُضعف أو تنهار، فعرف عوامل النهوض، وأسباب السقوط، وشخَّص العلل التي تعاني منها الأمة، ووضع العلاج مسترشدًا بسيرة النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- مقتديًا به، مستلهمًا حكمته في البناء ووسائله في الجهاد، دافعًا في ذلك كله محبةً صادقةً لله، محبةً صادقةً لرسول الله، محبةً صادقة لكتاب الله، محبةً صادقةً لعباد الله، محبةً صادقةً لخلق الله أجمعين، تجعله يتمنَّى مِن كلِّ قلبه هدايتَهم ويعزُّ عليه شقاوتهم، ولسان حاله يقول: "وددت لو أن لَحمي قُرض بالمقاريض وأن الخلق أطاعوا الله".

 

نعم هذه المحبة الصادقة هي سرُّ نجاحه في دعوته ولا عجب، (فالدعوة إلى الله حبٌّ) كما أطلقها وبحق الحاج عباس السيسي عليه رحمة الله.

 

إن سرَّ نجاح حسن البنا في دعوته وسرَّ انتشار فكرته أنه أحبَّها حبًّا عظيمًا، وآمَن بها إيمانًا صادقًا، فكان على أتمِّ الاستعداد لأن يضحِّيَ بنفسه وبكل ما يملك في سبيل نجاح هذه الدعوة وانتشارها وانتصارها، وصدَقَ من قال: آمِن أنت بفكرتك أولاً.. عندئذ يؤمن بها الناس، نعم إن سرَّ نجاح البنا في دعوته أنه كان شخصيةً عظيمةً مُحبًّا للدعوة إلى الله، محبًّا لله الذي يدعو إليه، محبًّا للمدعوين الذين يدعوهم إلى الله فبادلوه حبًّا بحب، فكانت الاستجابة لدعوته والاتفاف حول هذا الداعية والقائد الذي جمعهم على الحب وقادهم بالحب.

 

تعالَوا بنا نستمع إلى شهادةِ واحدٍ من الذين جذَبَهم بالحبِّ وقادَهم بالحب إلى شهادة واحد من أصحابه الذين عاصروه ولازموه وتتلمذوا على يديه، فنستمع إلى الحاج عباس السيسي وهو يروي لنا قصة أول لقاء:

 

منذ أول لقاء بإخواني مع الأستاذ حسن البنا أحْسَست أنه شدَّني بأسلوب فذٍّ، وجذبني إلى قلبه بعاطفةٍ حلوةٍ من الحبِّ، الذي سرعان ما فجَّر ينابيع قلبي، وأطلق مسحوقَ عواطفي، وألهب مشاعري، وأيقظ موات حواسِّي، وأدركت يومئذ أن هذا الذي كان يعطِّل مسيرةَ روحي وانطلاق مشاعري هو الحب الخفي المستحي الذي وَجد من يكشف عنه الغطاء ويحرِّره من إساءةٍ، ويمسح عنه غبارَ الجاهلية، وبدأتُ أسمع حسن البنا وهو يبدأ حديثَه بما أسماه "عاطفة الثلاثاء" بسبحات روحية صوفية عن الحبِّ في الله، يغوض بها في أعماق النفس والحس، يغذِّي بها القلوب، ويهدهد بها العواطف، ويعطِّر بها الأنفاس، ويشعل الحماس، وفي كل حديث يقدم باقةً جديدةً من فيوضات الحب في الله، وهو حين يتحدث إلى الإخوان يَغيب بروحه وعواطفه وحبِّه في ذواتهم، كأنما يتجاوب مع كل فرد منهم، فقد كان حديثه عن الحب في الله فريدًا وجديدًا على السماع والطِّباع لقد جدَّد حسن البنا معانيَ الحب النقي التقي العفيف الشريف بصورته الرائعة حين استلهمه من أعماق التاريخ الإسلامي، فأشرقت به القلوب، ونَعِمت به النفوس، وأثمرت به الجهود، وجمع به الأمة، وهكذا عشنا- ولا نزال نعيش- في رحاب عاطفة الحب في الله تعالى، ننعم بها، ونغذي قلوبنا وآمالنا برحيقها الفوَّاح وأريجها المُنعِش للنفوس والأرواح، وإذا سخر الإله ناسًا لسعيد فإنهم سعداء.

 

لقد تفجَّرت ينابيع الحب في أعماقنا، وتجسَّدت حركةً وخلقًا في معاملاتنا، وأصبح الحب مشغلةً نفسيةً عميقةً في حياتنا، ولكننا كنا حديثي عهد بهذا الإشراق وتلك الأشواق، ولا تزال صورة الحب الجاهلي تصدُّنا خوفًا وخجلاً، كنا نقول في أنفسنا: هل هذا الشعور الجديد له ثوابت سابقة في صدر الإسلام؟! وإذا كان كذلك فلماذا ظلَّ ويظلُّ حبيسًا مكسوفًا تتناجَى به القلوب على استحياء؟! ولماذا لا يصارع في معركة الإسلام العاطفية والروحية ويكشف عن مناجم العواطف المذخورة في أعماق النفوس الإسلامية المتدفِّقة في شرايين شباب هذه الأمة الحائرة المتعطشة لنمو الحب؟!

 

هذه شهادة واحد مِن الذين عاصروه وتربَّوا على يديه، ولنستمع إلى شهادة رجل آخر، يقرُّ الجميع بعلمه وفضله، وهو الشيخ محمد الغزالي؛ لنرى من خلال شهادته كيف كان حجم الحب في نفس وقلب وطريقة حسن البنا في البناء والتربية، يقول رحمه الله: أصِفُه ويَصِفُه معي كثيرون بأنه مجددُ القرن الرابع عشر للهجرة منذ وضع جملة مبادئ، تجمع الشملَ المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيد آسية، وعين لمَّاحة، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول، كان يتلو القرآن بصوتٍ رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرةٌ ملحوظةٌ على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب، وأسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله يذكِّر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.. لقد عاد القرآن غضًّا طريًّا على لسانه، وبدَت وراثة النبوة ظاهرةً في شمائله، ويكفيه شرفًا أنه صانع الشباب والجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبًّا للإسلام واستمساكًا به، وأشهد أنه محَقَ ذاته في مرضاة الله، وبذَل النُّصحَ للعامَّة والخاصة، وكان يضنُّ بالدقيقة من يومه أن تضيع في غير مصلحة الإسلام والمسلمين.

 

ولنستمع إلى شهادة العلامة الشيخ محمد الحامد رحمه الله، يقول فيه: لقد عرفه الناس وآمنوا بصدقه، وكنت واحدًا من هؤلاء العارفين به، والذي أقوله فيه قولاً جامعًا: هو أنه كان لله بكليته.. بروحه وجسده، بقالبه وقلبه، بتصرفاته وتقلبه، كان لله فكان الله له، واجتباه وجعله من سادات الشهداء الأبرار.

 

ويروي عنه الكثيرون ممن عاصروه- ومنهم الشيخ الغزالي- أنه كان يقابل الواحد من تلاميذه وهو في عمله أو في ورشته يرتدي لباس مهنته فيعانقه ويضمّه إلى صدره على هذا العناق الحارّ من اتساخ ملابسه شخصيًّا.

 

هذا الحب الصادق وهذه العاطفة الجيَّاشة هي سر الأسرار في نجاحه وإقبال الناس عليه وعلى دعوته، يتأسى في ذلك برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي تروي عنه عائشة رضي الله عنها مبيِّنةً كيف كان حبه لأصحابه، تقول: قدم زيد بن حارثة المدينةَ ورسول الله في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يجرُّ ثوبه فاعتنقه وقبَّله (رواه الترمذي وحسنه).

 

لقد أحبَّ الأستاذ البنا أصحابَه بصدق وإخلاص، فأحبوه بصدق ووفاء، ولقد كان حبه لهم خاليًا من التكلف، وهذا هو سرُّ عظمته، أنه كان يحمل قلبًا كبيرًا محبًّا للخير عند الناس كما يحبه لنفسه ويحمد الله على النعمة ينعم بها على الناس كما يحمده على النعمة ينعم بها عليه.. كان الحب في حياة حسن البنا هو كل شيء، يستخدمه مع أنصاره ومع خصومه على السواء.

 

كان يقول: "سنقاتل أعداءنا بالحب" وصدق والله، فليس بالسلاح فقط تُحسَم القضايا، ربما يكون اللين والرفق أمضى من سلاح العنف والشدة وأقدر على حسم القضايا.

 

وكثير من القضايا الدولية الخطيرة كان سلاح تغيير الفكر والأخلاق هو الباعث للدمار الأخلاقي والاقتصادي والعسكري لمعسكر الأعداء، ونموذج انهيار الاتحاد السوفيتي ليس منا ببعيد وهو شاهد على ذلك.

 

ولعل الحرب بالحب والجدال بالتي هي أحسن هي أنبل وأقوى أنواع الأسلحة التي يملكها الإسلام، والتي تعتبر أكثرها اتفاقًا مع روحه ومنهجه، وانتشار الإسلام في الهند وشرق آسيا خير شاهد.

الحب نور يظل الظل يرهبه  وما سوى الحب قهار ومنتصر

 

فالناس متى رأت صدقًا في الخلُق وسماحةً في المعاملة وحرصًا على المصلحة ودرءًا للمفسدة عنهم بشتى السبل فإنها تقبل بعواطفهم ومشاعرهم نحو مصدر هذا النور ومكمن هذا الخير.

 

دلائل الحب لا تخفَى على أحد، كحامل المسك لا يخلو من العبق، بل إن الإسلام عندما يلجأ كارهًا إلى القوة- باعتبارها آخر العلاج الكي- فإنه يلجأ إليها بباعث الحب الرحمة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: من الآية 179).

 

أرأيت أخي الحبيب كيف كان الأستاذ البنا محقًّا عندما أطلق هذه المقولة: "سنقاتل أعداءنا بالحب"؟! وكان البنا يدرك جيدًا سرَّ قوته وغناه بما يملكه من هذا الرصيد الزاخر من المحبة، فعندما سُئِلَ حسن البنا: هل أنت غني؟! قال: "أنا غني بهذه القلوب التي تحابَّت معي في الله"!!